فصل: تفسير الآية رقم (181):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآية رقم (181):

{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)}
{فمن بدله} أي غير الوصية من الأولياء والأوصياء وذلك التغيير يكون إما في الكتابة أو في قسمة الحقوق، أو الشهود بأن يكتموا الشهادة أو يغيروها. وإنما ذكر الكناية في بدله مع أن الوصية مؤنثة لأن الوصية بمعنى الإيصاء كقوله: {فمن جاءه موعظة} أي وعظ والتقدير فمن بدل قول الميت، أو ما أوصي به {بعد ما سمعه} أي من الموصي وتحققه {فإنما إثمه على الذين يبدلونه} أي إن إثم ذلك التبديل لا يعود إلاّ على المبدل، والموصي والموصي له بريئان منه {إن الله سميع} يعني لما أوصى به الموصي {عليم} يعني بتبديل المبدل.

.تفسير الآيات (182- 183):

{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}
{فمن خاف} أي علم وهو خطاب عام لجميع المسلمين {من موص جنفاً} يعني جوراً في الوصية وعدولاً عن الحق، والجنف الميل {أو إثماً} أي ظلماً {فأصلح بينهم} وقيل الجنف الخطأ في الوصية والإثم العمد. وقيل في معنى الآية: إنه إذا حضر رجل مريضاً وهو يوصي فرآه يميل في وصيته إما بتقصير أو إسراف أو وضع الوصية في غير موضعها فلا حرج عليه أن يأمره بالعدل في وصيته وينهاه عن الجنف والميل، وقيل إنه أراد به إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف متعمداً فلا حرج على وليه أو وصيه أو ولي أمور المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته وبين الموصى لهم، ويرد الوصية إلى العدل والحق {فلا إثم عليه} أي فلا خرج عليه في الصلح {إن الله غفور رحيم} أي لمن أصلح وصيته بعد الجنف والميل. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل والمرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار» ثم قرأ أبو هريرة: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} إلى قوله: {ذلك الفوز العظيم} أخرجه أبو داود والترمذي. قوله: فيضار إن المضارة إيصال الضرر إلى شخص ومعنى المضارة في الوصية أن لا تمضى أو ينقص بعضها أو يوصي لغير أهلها أو يحيف في الوصية ونحو ذلك. قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا كتب} أي فرض {عليكم الصيام}. والصوم في اللغة: الإمساك يقال صام النهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة ومنه قوله تعالى: {إني نذرت للرحمن صوماً} أي صمتاً لأنه إمساك عن الكلام، والصوم في الشرع: عبارة عن الإمساك عن الأكل والشرب والجماع في وقت مخصوص وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية {كما كتب على الذين من قبلكم} يعني من الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم والمعنى أن الصوم عبادة قديمة أي في الزمن الأول ما أخلى الله أمة لم يفرضه عليهم كما فرضه عليكم وذلك لأن الصوم عبادة شاقة والشيء الشاق إذا عم سهل عمله وقيل إن صيام شهر رمضان كان واجباً على النصارى كما فرض علينا فصاموا رمضان زماناً فربما وقع في الحر الشديد والبر الشديد وكان يشق ذلك عليهم في أسفارهم ويضرهم في معايشهم فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم أن يجعلوه في فصل من السنة معتدل بين الصيف والشتاء: فجعلوه في فصل الربيع ثم زادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصاموا أربعين يوماً، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فمه فجعل لله عليه إن هو برأ من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعاً فبرأ فيه أسبوعاً، ثم مات ذلك الملك بعد زمان ووليهم ملك آخر فقال: ما شأن هذه الثلاثة أيام أتموه خمسين يوماً فأتموه وقيل أصابهم موتان فقالوا: زيدوا في صيامكم فزادوا عشراً قبله وعشراً بعده.
وقيل: إن النصارى فرض الله عليهم صوم رمضان فصاموا قبله يوماً وبعده يوماً ثم لم يزالوا يزيدونه يوماً بعد يوم حتى بلغ خمسين فلذلك نهى عن صوم يوم الشك {لعلكم تتقون} يعني ما حرم عليكم في صيامكم لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من كسر النفس وترك الشهوات من الأكل والجماع وغيرهما. وقيل: معناه لعلكم تتقون ما فعله النصارى من تغيير الصوم وقيل: لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين لأن الصوم من شعارهم.

.تفسير الآية رقم (184):

{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}
{أياماً معدودات} أي مقدرات. وقيل قليلات. وقيل: إنه كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجباً وصوم يوم عاشوراء ثم نسخ ذلك بفريضة صوم شهر رمضان. قال ابن عباس أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة ثم الصوم.
(ق) عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه وقيل إن المراد من قوله أياماً معدودات أيام شهر رمضان ووجهه أن الله تعالى قال أولاً: {كتب عليكم الصيام} وهذا يحتمل صوم يوم أو يومين ثم بينه بقوله: {معدودات} على أنه أكثر من ذلك لكنها غير منحصرة بعدد ثم بين حصرها بقوله: {شهر رمضان} فإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمل الأيام المعدودات على غير رمضان فتكون الاية غير منسوخه يقال: إن فريضة رمضان نزلت في السنة الثانية من الهجرة وذلك قبل غزوة بدر بشهر وأيام، وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان على رأس ثمانية عشر شهراً من الهجرة {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر} أي فأفطر {ف} عليه {عدة من أيام أخر} يعني غير أيام مرضه وسفره {وعلى الذين يطيقونه} أي يطيقون الصوم. واختلف العلماء في حكم هذه الآية فذهب أكثرهم إلى أنها منسوخة وهو قول عمر بن الخطاب وسلمة بن الأكوع وغيرهما، وذلك أنهم كانوا في ابتداء الإسلام مخيرين بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويفدوا وإنما خيرهم الله تعالى لئلا يشق عليهم، لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} فصارت هذه الاية ناسخة للتخيير.
(ق) عن سلمة بن الأكوع قال لما نزلت هذه الآية: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} كان من أراد أن يفطر ويفتدي فعل حتى نزلت هذه الآية التي بعدها فنسخها وفي رواية حتى نزلت هذه الآية: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وقال قتادة: هي خاصة في حق الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ولكن يشق عليه رخص له أن يفطر ويفتدي ثم نسخ ذلك. وقال الحسن: هذا في المريض الذي يقع عليه اسم المرض وهو يستطيع الصوم خير بين الصيام وبين أن يفطر ويفتدي ثم نسخ. وذهب جماعة منهم ابن عباس إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، ومعناها وعلى الذين كانوا يطيقونه في حال الشباب، ثم عجزوا عنه عند الكبر فعليهم الفدية بدل الصوم وقرأ ابن عباس: وعلى الذين كانوا يطيقونه بضم الياء وفتح الطاء وبالواو المشددة المفتوحة عوض الياء ومعناه يكلفون الصوم.
(خ) عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ: {وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين} قال ابن عباس: ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً {فدية طعام مسكين} الفدية الجزاء وهو القدر الذي يبذله الإنسان، يقي به نفسه من تقصير وقع منه في عبادة ونحوها ويجب على من أفطر في رمضان ولم يقدر على القضاء، لكبر أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً مداً من غالب قوت البلد وهذا قول فقهاء الحجاز، وقال بعض فقهاء العراق عليه لكل مسكين نصف صاع عن كل يوم وقال بعضهم نصف صاع من البر وصاع من غيره، وقال ابن عباس يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره {فمن تطوع خيراً فهو خير له} يعني زاد على مسكين واحد فأطعم عن كل يوم مسكينين فأكثر، وقيل فمن زاد على قدر الواجب عليه فأطعم صاعاً وعليه مد فهو خير له {وأن تصوموا خير لكم} قيل هو خطاب مع الذين يطيقونه فيكون المعنى وأن تصوموا أيها المطيقون وتتحملوا المشقة فهو خير لكم من الإفطار والفدية، وقيل: هو خطاب مع الكافة وهو الأصح لأن اللفظ عام فرجوعه إلى الكل أولى {إن كنتم تعملون} يعني أن الصوم خير لكم وقيل: معناه إذا صمتم علمتم ما في الصوم من المعاني المورثة للخير والتقوى.
واعلم أنه لا رخصة لأحد من المسلمين المكلفين في إفطار رمضان بغير عذر والأعذار المبيحة للفطر ثلاثة: أحدها السفر والمرض والحيض والنفاس فهؤلاء إذا أفطروا فعليهم القضاء دون الكفارة. الثاني الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء والكفارة وإليه ذهب الشافعي، وذهب أهل الرأي إلى أنه لا فدية عليهما. الثالث الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة والمريض الذي لا يرجى برؤه فعليهم الكفارة دون القضاء.

.تفسير الآية رقم (185):

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}
قوله عز وجل: {شهر رمضان} يعني وقت صيامكم شهر رمضان، سمي الشهر شهراً لشهرته يقال: للسر إذا أظهره شهره وسمي الهلال شهراً لشهرته وبيانه وقيل: سمي الشهر شهراً باسم الهلال، وأما رمضان فاشتقاقه من الرمضاء وهي الحجارة المحماة في الشمس وقيل: إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسموه به. وقيل: إن رمضان اسم من أسماء الله تعالى فيكون معناه شهر الله والأصح أن رمضان اسم لهذا الشهر كشهر رجب وشهر شعبان وشهر رمضان {الذين أنزل فيه القرآن} لما خص الله شهر رمضان بهذه العبادة العظيمة بين سبب تخصيصه بإنزال أعظم كتبه فيه، والقرآن اسم لهذا الكتاب المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم روي عن الشافعي أنه كان يقول القرآن اسم وليس بمهموز وليس هو من القراءة ولكنه اسم لهذا الكتاب كالتوراة والإنجيل فعلى هذا القول إنه ليس بمشتق وذهب الأكثرون إلى أنه مشتق من القرء وهو الجمع فسمي قرآناً لأنه يجمع السور والآيات بعضها إلى بعض، ويجمع الأحكام والقصص والأمثال والآيات الدالة على وحدانية الله تعالى. قال ابن عباس أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة فذلك قوله: {فلا أقسم بمواقع النجوم} وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنزلت صحف إبراهيم في ثلاث ليال مضين من رمضان، وفي رواية في أول ليلة من رمضان وأنزلت توارة موسى في ست ليال مضين من رمضان وأنزل إنجيل عيسى في ثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان، وأنزل زبور داود في ثمان عشرة ليلة مضت من رمضان، وأنزل الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم في الرابعة والعشرين لست بقين بعدها» فعلى هذا يكون ابتداء نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في شره رمضان، وهو قول ابن إسحاق وأبي سليمان الدمشقي وقيل في معنى الآية شهر رمضان الذي نزل بفرض صيامه القرآن كما تقول نزلت هذه الآية في الصلاة والزكاة ونحو ذلك من الفرائض يروى ذلك عن مجاهد والضحاك وهو اختيار الحسن بن الفضل {هدى للناس} يعني من الضلال {وبينات من الهدى والفرقان}. فإن قلت هذا فيه إشكال وهو أنه يقال ما معنى قوله: {وبينات من الهدى} بعد قوله: {هدى للناس}؟ قلت إنه تعالى ذكراً أولاً أنه هدى ثم هدى على قسمين: تارة يكون هدى جلياً وتارة لا يكون كذلك، فكأنه قال هو هدى في نفسه ثم قال: هو المبين من الهدى الفارق بين الحق والباطل وقيل: إن القرآن هدى في نفسه فكأنه قال: إن القرآن هدى للناس على الإجمال وبينات من الهدى والفرقان على التفصيل، لأن البينات هي الدلالات الواضحات التي تبين الحلال والحرام والحدود والأحكام، ومعنى الفرقان الفارق بين الحق والباطل.
قوله عز وجل: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} أي فمن كان حاضراً مقيماً غير مسافر فأدركه الشهر فليصمه والشهود الحضور، وقيل: هو محمول على العادة بمشاهد الشهر وهي رؤية الهلال ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» أخرجاه في الصحيحين، ولا خلاف أنه يصوم رمضان من رأى الهلال ومن أخبر به واختلف العلماء في وجه الخبر عنه منهم من قال يجزئ فيه خبر الواحد، قاله أبو ثور: ومنهم من أجراه مجرى الشهادة في سائر الحقوق قال مالك: ومنهم من أجرى أوله مجرى الأخبار فقبل فيه خبر الواحد وأجرى آخره مجرى الشهادة فلا يقبل في آخره أقل من اثنين؛ قاله الشافعي: وهذا للاحتياط في أمر العبادة لدخولها وخروجها {ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} إنما كرره لأن الله تعالى ذكر في الآية الأولى تخيير المريض والمسافر والمقيم الصحيح ثم نسخ تخيير المقيم الصحيح بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} فلو اقتصر على هذا لاحتمال أن يشمل النسخ الجميع، فأعاد بعد ذكر الناسخ الرخصة للمريض والمسافر ليعلم أن الحكم باق على ما كان عليه.
فصل في حكم الآية، وفيه مسائل:
الأولى: اختلفوا في المرض المبيح للنظر على ثلاثة أقوال: أحدها وهو قول أهل الظاهر أي مرض كان وهو ما يطلق عليه اسم المرض، فله أن يفطر تنزيلاً للفظ المطلق على أقل أحواله، وإليه ذهب الحسن وابن سيرين. القول الثاني وهو قول الأصم إن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام، لوقع في مشقة عظيمة تنزيلاً للفظ المطلق على أكمل أحواله. القول الثالث وهو قول أكثر الفقهاء إن المرض المبيح للفطر، هو الذي يؤدي إلى ضرر من النفس أو زيادة علة محتملة كالمحموم إذا خاف أنه صام اشتدت حماه وصاحب وجع العين يخاف لو صام أن يشتد وجع عينه فالمراد بالمرض، ما يؤثر في تقويته قال الشافعي إذا أجهده الصوم أفطر، وإلاّ فهو كالصحيح.
المسألة الثانية: الفطر في السفر مباح، والصوم جائز وبه قال عامة وقال ابن عباس وأبو هريرة وبعض أهل الظاهر: لا يجوز الصوم في السفر، ومن صام فعليه القضاء واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصيام في السفر» وحمله عامة العلماء على من يجهده الصوم في السفر فالأولى له الفطر ويدل على ذلك ما روي عن جابر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً قد ظلل عليه فقال ما هذا؟ قالوا صائم قال: ليس من البر الصيام في السفر» أخرجه البخاري ومسلم، وحجة على جواز الصوم والفطر في السفر ما روي عن أنس قال: «سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم» أخرجاه في الصحيحين.
المسألة الثالثة: اختلف العلماء في قدر السفر المبيح للفطر. فقال داود: الظاهري أي سفر كان ولو كان فرسخاً. وقال الأوزاعي: السفر المبيح للفطر مسيرة يوم واحد. وقال الشافعي وأحمد ومالك: أقلة مسيرة ستة عشر فرسخاً يومان وقال أبو حنيفة وأصحابه أقله مسيرة ثلاثة أيام.
المسألة الرابعة: إذا استهل الشهر وهو مقيم ثم أنشأ السفر في أثنائه جاز له أن يفطر حالة السفر ويجوز له أن يصوم في بعض السفر وأن يفطر في بعضه إن أحب، يدل عليه ما روي عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس معه، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» أخرجاه في الصحيحين. والكديد اسم موضع وهو على ثمانية وأربعين ميلاً من مكة.
المسألة الخامسة: اختلفوا في الأفضل: فذهب الشافعي إلى أن الصوم أفضل من الفطر في السفر، وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال أحمد الفطر، أفضل من الصوم في السفر، وقالت طائفة من العلماء: هما سواء، وأفضل الأمرين أيسرهما، لقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}.
المسألة السادسة: يبيح الفطر كل سفر مباح ليس سفر معصية ولا يجوز للعاصي بسفره أن يترخص برخص الشرع وقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} معناه فأفطر فعليه عدة من أيام آخر فظاهر هذا أنه يجوز قضاء الصوم متفرقاً وإن كان التتابع أولى، وفيه أيضاً وجوب القضاء من غير تعيين لزمن القضاء فيدل على جواز التراخي في القضاء ويدل عليه أيضاً ما روي عن عائشة قالت: «كان يكون على الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلاّ في شعبان ذاك من الشغل بالنبي صلى الله عليه وسلم» أخرجاه في الصحيحين {يريد الله بكم اليسر} أي التسهيل في هذه العبادة وهي إباحة الفطر للمسافر والمرض {ولا يريد بك العسر} أي قد نفى عنكم الحرج في أمر الدين قيل: ما خير رجل بين أمرين فاختار أيسرهما إلاّ كان أحب إلى الله تعالى: {ولتكملوا العدة} أي عدد الأيام التي أفطرتم فيها بعذر السفر والمرض والحيض، لتقضوا بعددها: وقيل: أراد عدد أيام الشهر.
(ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى ترون فإن غم عليكم فاقدروا له، وفي رواية فأكملوا العدة ثلاثين» {ولتكبروا الله} فيه قولان أحدهما أنه تكبير ليلة العيد، قال ابن عباس: حق على المسلمين إذا رأوا إهلال شوال أن يكبروا. وقال الشافعي: واجب إظهار التكبير في العيدين، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة: لا يكبر في عيد الفطر ويكبر في عيد الضحى حجة الشافعي ومن وافقه قوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم} قالوا: معناه ولتكملوا عدة صوم رمضان ولتكبروا الله على ما هداكم إلى آخر هذه العبادة القول الثاني في معنى قوله ولتكبروا الله، أي ولتعظموا الله شكراً على ما أنعم به عليكم ووفقكم للقيام بهذه العبادة {على ما هداكم} أي أرشدكم إلى طاعته وإلى ما يرضى به عنكم {ولعلكم تشكرون} الله على نعمه.
فصل في فضل شهر رمضان وفضل صيامه:
(ق) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل شهر رمضان صفدت الشياطين وفتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار» الصفد الغل أي شدت بالأغلال.
(ق) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» قوله إيماناً واحتساباً أي طلباً لوجه الله تعالى وثوابه وقيل إيماناً بأنه فرض عليه، واحتساباً ثوابه عند الله وقيل: معناه نية وعزيمة وهو أن يصوم على التصديق به والرغبة في ثوابه طيبة بها نفسه غير كارهة.
(ق) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عمل ابن آدم له يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلاّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» زاد في رواية «والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذٍ ولا يصخب فإن شتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم» قوله: «كل عمل ابن آدم له» معناه أن له فيه حظاً لاطلاع الخلق عليه إلاّ الصوم فإنه لا يطلع عليه أحد وإنما خص الصوم بقوله تعالى لي وإن كانت جميع الأعمال الصالحة له وهو يجزى عليها لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بقول ولا فعل حتى تكتبه الحفظة وإنما هو من أعمال القلوب بالنية ولا يطلع عليه إلاّ الله تعالى لقول الله تعالى: إنما أتولى جزاءه على ما أحب لا على حساب ولا كتاب له.
وقوله: «وللصائم فرحتان فرحة عند فطره» أي بالطعام لما بلغ به من الجزع لتأخذ النفس حاجتها منه وقيل فرحة بما وفق له من إتمام الصوم الموعود عليه بالثواب وهو قوله: «وفرحة عند لقاء ربه» لما يرى من جزيل ثوابه. وقوله: ولخلوف بضم الخاء وفتحها لغتان وهو تغير طعم الفم وريحه لتأخير الطعام ومعنى كونه أطيب عند الله من ريح المسك هو الثناء على الصائم والرضا بفعله، لئلا يمتنع من المواظبة على الصوم الجالب للخلوف والمعنى أن خلوف فم الصائم أبلغ عند الله في قبول من ريح المسك عند أحدكم. قوله: الصيام جنة أي حصن من المعاصي لأن الصوم يكسر الشهوة فلا يواقع المعاصي قوله فلا يرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الإنسان من المرأة، وقيل: هو التصريح بذكر الجماع. والصخب الضجر والجلبة والصياح.
(ق) عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيام يقال أين الصائمون فيقومون. لا يدخل منه أحد غيركم فإذا دخلوا أغلق فلا يدخل منه أحد وفي رواية إن في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان لا يدخله إلاّ الصائمون» عن أبي أمامة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به قال: «عليك بالصوم فإنه لا مثل له» وفي رواية: «أي العمل أفضل فقال عليك بالصوم فإنه لا عدل له» أخرجه النسائي.